Tuesday, July 15

إمبارح كان عمري عشرين



لا يمكن أن يكون ذلك حقيقة ... هكذا قالت لنفسها. نعم لا يمكن أن يكون الشخص الوحيد في هذه الدنيا الذي شعرت نحوه بأي شيء يجلس الان أمامها بجوار والدته ووالدتها وفي مكان عام وأمامهم جميعا أكواب من العصير. هل من الممكن أن تذهب الصدف إلى هذا الحد؟ كانت كل صباح تصحو من النوم على أغاني محمد منير التي يسمعها في بلكونته القريبة بعض الشيء من بيتهم فتنتشي ويقرب صوت منير بينهما ويلغي الفوارق. لم يرها يوما لكنها اعتادت أن تراقبه كل صباح. فقبل ذهابها للكلية يكون أمامها سلسلة من الخطوات لمراقبته. تصحو من النوم مسرعة لانها تأخرت على كليتها هذا من جهة وعلى مسيرة متابعة الامور الصباحية التي يحرص عليها الجار العزيز. اليوم لم تلحق به وهو يشغل جهاز الكاسيت ولا وهو يسقي الزرع الكثير في بلكونته ثم يشرب كوب النسكافيه مسرعا ويخطف سلسلة مفاتيحه ويدسها جيدا في جيبه ويفتح الباب ثم .... قطع تقف اللقطة عند هذا الحد اليوم ويأتي الغد. وتتكرر نفس التفاصيل الكاسيت والزرع والنسكافيه والمفاتيح وإغلاق الباب بإحكام. ربما أضاف في يوم من الايام حلاقة الذقن فهو كثيرا ما يتركها بعض الشيء وهي تحب ذلك كثيرا وتتمنى لو يبحث في يوم من الايام عن ماكينة الحلاقة ولا يجدها. أحبت هذه التفاصيل الصغيرة جدا تعرف كل الكرافاتات التي يملكها جيدا ونوع العطر التي يحبه ولون غرفته الذي هو بالضبط لونها المفضل وإن لم يكن لون حجرتها الحالية في منزل أبيها.

يا إلهي أيكون حظها سعيدا لهذا الحد وهل من الممكن أن تتحقق الاحلام مرة واحدة أمن الممكن أن تجمع إخفاقات العمر في سلة واحدة وتستبدل هذه السلة بأخرى مليئة بالسعادة والحب. لكنها الان يجب أن تركز جيدا فهذه هي فرصتها الوحيدة في اقتناص إعجاب هذا الشخص وبأي شكل حتى يتحقق المراد. كان عليها وهي التي تعرف أدق تفاصيله أن تتجاهل هذا الامر وتبدأ الحديث معه وتسأله في بديهيات بالنسبة لها في هذه الجلسة الرسمية السخيفة. ياااه كم تتمنى لو انفض هذا المولد واصطحبها في مكان آخر وحدهما لعبا وغنيا معا أغاني منير واشترى لها أي شيء بهذا اللون المفضل لهما. "أوكيه" هكذا قالت لنفسها فلتتحمل هذه الساعات البغيضة الحتمية أملا في عمر مديد يجمعهما سويا سيسخران خلاله أكيد من هذه الاكواب المقيتة والاسئلة المباشرة والامهات الممتلئات بالامل في تزويج الابناء ورؤية أحفادهم ويرون الخلاص في الانتهاء من هذه المهمة. بدأ الحوار بسيطا كيف حالك؟ ضحكت من قلبها جدا لكنها رسمت الابتسامة التي تعرفها جميع البنات في هذه الجلسة الكربون عند الجميع. وقالت "كويسة وإنتا؟" وهنا لم تستطع أن تخفي ضحكة بسيطة تسربت إلى شفتيها فهي تسأله عن حاله. يا إلهي إنها تعرف حاله جيدا خاصة في الاونة الاخيرة حيث حالفها الحظ السعيد وكانت محاضراتها تنتهي في وقت مبكر لتعود في مكانها المقدس خلف الشيش وتراقب خطواته. اليوم مثلا عاد من عمله في الرابعة اختفى لنصف ساعة ربما لتناول الغداء ثم فتح جهاز الكمبيوتر الخاص به وتصفح الفايس بوك الذي فكرت في التسلل إليه لمعرفة أي معلومة أخرى عنه لكنها لم تستطع بسبب الاجراءات الامنية التي يضعها "حضرتو" على الصفحة.

وبعد ذلك يتحدث في التليفون فترة ثم يتسامر قليلا مع أخيه الكبير الذي لا تدري حتى الان لم ينام في غرفته بعض الايام. ستسأله عن هذا الامر ولكن فيما بعد أكيد فبعد هذا اللقاء المقيت سيكون أمامها متسع من الوقت ومن يعرف ربما حكت له حكاية الشيش ومراقبتها الحثيثة لتحركاته.

بعد السؤال عن الاحوال المعروفة مسبقا بالنسبة لها كان أول ما خطر ببالها أن تسأله عنه في الجلسة مطربه المفضل. كانت على يقين أن منير سيلطف الاجواء ويقرب المسافات ويلغي الفوارق ويختصر الوقت ويختزل المشاعر كما يفعل في أغانيه. نعم هذا هو المدخل وبكل براءة انطلق السؤال "طب قولي بقا انت بتحب تسمع مين يعني سواء عربي أو أجنبي؟" وابتسمت ابتسامة من يعرف الجواب عن ظهر قلب وجاءها الرد سريعا "والله انا مليش في المزيكا قوي يعني أي حد بسمعو مش حد معين يعني". يا سلام أهذا هو الرد فلم تجد بدا من سؤاله إذن فقالت "طيب بتحب محمد منير؟" رد سريعا أيضا "أهو دا بقا بالذات أنا مش بطيقو بحس انو مدعي". "يا نهار أسود ومهبب" هذه هي العبارة التي سادت فكرها محمد منير مدعي من الواضح أنه لا يشاهد قنوات ميلودي إذن. ولكن ليست هذه هي القضية. لماذا تكذب؟ إذا كان مدعيا لم تسمعه صباح كل يوم؟ أرادت أن تقول ذلك ولكنها أحجمت واكتفت بالقول "أنا بقا بحبو جدا وبسمعو كل يوم الصبح قبل ما أنزل أروح الشغل" أرادت جدا أن تقول هذا فسألها "ايه ده مش انتي لسه في الكلية؟" تداركت الخطأ وقالت "سوري قصدي قبل ما أروح الكلية يعني" !!!!

بقدر ما استغربت رده قررت أن تنحي الموضوع جانبا وتنتقل إلى مواضيع أخرى. كانت المفاجأة أو لنقل الصدمة شديدة عليها لم يكن الجار العزيز لطيفا على الاطلاق في الحوار بالعكس كان سمجا ورسميا وتقليديا لا يتحمس لشيء ولا يبدو أنه يحب شيء أو يكره شيء. وأكثر ما غاظها جدا هذه النظرات النارية التي لم يستحي أن يوجه سهامها إلى جسدها. ألهذه الدرجة أصبحت بضاعة؟ لم لا يتعب نفسه قليلا ويصبح فقط أكثر تهذيبا وعذوبة ورقة أهو بالفعل هكذا انطباعها أول الجلسة اختلف كثيرا عن نظيره وهي تودعه بل هو النقيض حتى لونه المفضل لم يكن لون غرفته المحبب إليها بل لون أحمر ناري لماذا إذن اختار لونها المفضل لغرفته. بدأت تساورها الشكوك تأكدت في اليوم التالي من أن من كانت تجلس معه ومع أمه أمس هو بالفعل الشخص الذي يشغل الكاسيت في الصباح ويشرب النسكافيه يا إلهي ويسمع محمد منير.

قررت أن تتقمص دور التحري السري وتكشف السر كما قررت أن تقابله مرة أخرى وتكشف له ما بداخلها وتطلب تفسيرات. وبالنسبة له لم يكن عنده اعتراض فلقد كانت جميلة وهو المطلوب إثباته إذن تأكد بعينه من أنها ليست مضروبة وإن "كلو تمام" كما قال لوالدته عندما عادا. اتفقت الامهات على أن يتقابل الابناء المرة المقبلة في شقة العروسة التي لم تمانع بدافع قوي لكشف المستور.

جاءها مرتديا اللون الاحمر الناري القميء التي لا تحبه على النساء فما بالكم على الرجال. "ما علينا" هكذا قالت لنفسها وجلست عازمة على معرفة ما يجري بالضبط. حاولت أن تبدو بريئة قدر الامكان وقالت له "عارفة إن بيتكو بعيد شوية عن بيتنا بس انا ساعات يعني كنت بصحى بدري شوية وبسمع صوت محمد منير من بلكونتكو انت مش بتقول إنك مش بتحبو طب بتسمعو ليه؟" قهقه كثيرا وأرادت أن تشج رأسه. علام يضحك؟ ما المضحك فيما قالته؟ رد عليها "دا لازم الواد المجنون جارنا هوا اللي بيسمع الكلام الفاضي دا يا ستي انا أول ما بصحى من النوم بشغل الراديو على نجوم إف إم بتحبي عيش صباحك؟ أنا بحبو قوي ... " واسترسل في الكلام راسما ابتسامة بلهاء على شفتيه بينما اغرورقت عيناها بالدموع. فلتكن هذه الصدمة الاولى لكن ألم يكتف بالمرة الماضية ها هو مجددا يثبت نظراته الوقحة عليها.

قالت له بشجاعة لم تعلم حتى الان مصدرها "للعلم انا كنت ساعات بصحى بدري وبشوفك في البلكونة وعلى فكرة لون أوضتك جميل دا لوني المفضل أساسا". اعتدل في جلسته ورسم ابتسامة الواثق من نفسه تماما وتأكد أنها سقطت بين يديه وأنها عاشقة قديمة إذن فلن يكون هناك بد من ضحكة عالية. سمعتها لكنها غضت الطرف ونظرت إليه تماما. لم تكترث في الواقع لهذا الرد السخيف قدر سعيها وراء معلومة لون غرفته فقالت "مش هوا كدا لون أخضر فاتح قوي" رد عليها وكله ثقة "يا ساتر دا لون سخيف أصل دي يا ستي أوضة أخويا الكبير المتجوز ولما ساب البيت بقيت أنا اللي أقعد فيها لكني مبحبش اللون دا معلش هوا مش لازم نبقى زي بعض في كل حاجة بقا هاهاهاها".

كان لهذا وضع الصدمة وما زاد الطين بلة كما يقولون استرساله في الحديث عن عمله الذي يعشقه وانضباطه فيه وعلاقاته النسائية التي قال إنها محدودة. لم تتحدث كثيرا كان هو صاحب النصيب الاكبر في الحديث وكان الكلام مملا ورسميا "بحب الاكل جدا إوعي تكوني مبتعرفيش تطبخي بس حتى لو مبتعرفيش ممكن تتعلمي" وكلام من هذا القبيل.

أيعقل أن يكون هذا الملاك من بعيد بهذا القبح عن قرب؟ قررت الصمت ومر الوقت ثقيلا وهو لا يكف الحديث عن شقته وطموحه وعدد الاولاد التي يريدهم وكيف أنه لم يحب في حياته من قبل وأنها أول حب في حياته. هكذا من ثاني مرة. وفجأة طرأت على عقلها فكرة غريبة قد تكون الملاذ الاخير والمهرب الوحيد المتاح من هذا المأزق. سألته عن سبب اختياره لها وهل لانهما جيران رآها مثلا في يوم من الايام ذاهبة أو آتية من أي مكان أو إلى أي مكان ولفتت انتباهه. وجاءت القشة التي قصمت ظهر البعير وبعدها انتحر البعير نفسه وقرر ترك هذه الحياة. قال لها "بصراحة أنا مبخدش بالي وماما حكيتلي كتير عن جمالك عن عيلتكو وأصلكو وكدا". أطرقت ولم ترد وتساءلت عن معنى كلمة "كدا" هنا نعم ليس لها معنى آخر لقد استقى المعلومات المهمة من والدته ثم تأكد بنفسه من "كدا" عندما رآها يوم المشهد العظيم أمام أكواب العصير المقيتة.

اتخذت القرار النهائي وودعته بابتسامة مرسومة أبلغت والدتها بقرار الرفض الذي لن تكف الام عن مقابلته بخلاف شديد مع الابنة وعلى أي شخص. ثم نامت ولم تحلم بشيء وصحت في اليوم التالي فتحت الشيش الذي كانت تقبع وراءه منتظرة الجار الذي كان عزيزا على مصراعيه ولاول مرة منذ انتقلوا لهذا البيت قبل سنتين تنظر إلى البلكونة أسفل بلكونة عريس الغفلة وتنتشي بصوت منير يغني "إمبارح كان عمري عشرين".

17 إبريل 2008

No comments: